كتاب أشياء لن تستطيع أن تتخيلها اللغة العربية للصف الثاني عشر الفصل الأول 2021-2022
مقدمة
منذ عدة أعوام، وتحديدا في عام 2009 سجلت مجموعة من المحاضرات الصوتية العلمية على ممصة السايوير بودكاست، وكنت كلما أردت أن أسجل حلقة كتبت محتواها لتكون الأفكار مرتبة بتسلسل منطقي. كلفتني كتابة
المواضع كثيرا من الجهد والوقت والمال الشخصي؛ حيث جمعت المعلومات من مصادر متعددة، منها: المقالات العلمية المنشورة في المجلات المرموقة، ومنها الكتب، وصفحات الشبكة المعلوماتية(الإنترنت) الموثوقة، وكذلك الصفحات المبسطة الي تحاول إيصال المعلومة بتسط شديد، وقضيت أياما وأسابيع وفي بعض الأحيان أشهرا لتأليف كل مقالة على حدة.
في تلك الأيام لم تكن هناك قناة بودكاست عرية علمية واحدة، فقررت أن أملا هذا الفراغ، كان هدفي من المحاضرات نشر الوعي العلمي والثقافي في المجتمع العربي، فبدأ البودكاست غريبا واصبح اليوم أشهر بودكاست علمي له 35 شخصا خلال الأسبوع الأول، واليوم له في العالم العربي كله، استمع متابعون بمئات الآلاف.
في ظني، وقد أكون مخطئا، أن السبب في متابعة الناس للبودكاست بأعداد كبيرة ليس فقط فقر المحتوى العربي؛ بل لأن المحتوى الذي أقدمه للمستمعين أعد بعناية كبيرة ومستوى عال من الاهتمام بدقة المعلومات، مما جذبهم للاستماع له ونشره للآخرين. وكم أنا سعيد بذلك! لأن صوت العلم الخالي من الشوائب بدا - وإن لم يزل في بدايته - في الوصول للناس.
بعد إلحاح شديد من المتابعين - حيث طلبوا إلي جمع هذه المعلومات في كتاب، وبتباطؤ خطأ مني - قررت أن أقطف من المواضيع العلمية أجملها وأكثرها شعبية، لأكتبها بوضوح أكبر، ولأقدمها لهم متمنيا أن يغفر لي تأليف هذا الكتاب البسيط تأخري عن تلبية طلبهم، هدفي الأول إيصال الكتاب إلى المستمعين الأحباء الذين تابعوني ودعموني معنويا على مدى سنوات.
الخيال وأشياء لن تستطيع أن تتخيلها مهما حاولت
قد تستطيع تخيل الكثر من الأشياء الي رأيتها في حياتك، وتكون لها صورا ذهنية، فمن الممكن أن تتخيل الغداء الذي أكلته أمس، أو وجه أبيك، أو من الممكن أن ترى القمر في ذهنك إن أردت، وبإمكانك أن تتخيل أشياء لم ترها في حياتك، فمن الممكن أن تتخيل الحصان أحادي القرن، أو الفيل الأبيض أو رجلا بست أذرع وأربع أرجل، كل ما عليك القيام به هو تركيب الأشياء التي رأيتها في السابق لتكون صورة ذهنية لما لم تره من قبل، ولكن هناك أشياء لا يمكنك تخيلها مهما حاولت، لن تكون لديك القدرة على صناعة صور ذهنية لها في مخيلتك، حيث لا يوجد لها أي مثيل في عالمنا، ولا توجد طريقة لتركيب أشياء مختلفة لتكوينها.
إن أردنا أن نعرف أن هناك أشياء لا نستطع أن نتخيلها، علينا أولا أن نعرف نجيب عن هذا السؤال، وسأتطرق أننا نتخيل الأشياء في الأساس؟ لأهمية الخيال في حياتنا، فلو لم تكن لدينا القدرة على الخيال لما تمكنا من فهم العلاقات السببية بين الأشياء، لتطوير العالم من حولنا، بل لما كان بالإمكان سن القوانين الي تعتير أبنية فكرية مجردة.
بعد ذلك أنتقل إلى الأشياء الي لا نستطيع تخيلها، وكذلك سأتطرق لمعلومات إضافية عن كل واحدة من هذه الأشياء، بحيث تتعرف بعض غرائبها وبعض المشكلات العلمية والفلسفية الي يعاني منها المفكرون حينما يتناولوها في علومهم. ثم سأنتقل إلى قدرتنا على التخيل في الواقع، بعد أن نعرف أن هناك أشياء لا نستطيع أن نتخيلها مهما حاولنا.
ما هو التخيل؟ التخيل هو قدرة الإنسان على أن يرى في عقله، أو أن يكون صورا ذهنية وأحاسيس من غير أن تأتي له هذه الصور من خلال الحواس، فلما نفكر في فكرة معينة فإننا نتخيلها سواء أكانت هذه الأفكار صورا أم كلمات أم أحاسيس أم ما أشبه، كل هذه الخيالات الذهنية تساعد في تشكيل الأفكار
وتطوير حياتنا، وهى المساهم الأول في تطوير الحياة على الأرض. فلولا أننا قادرون على أن نتخيل لما كان بالإمكان أن نصنع الآيفون، أو الطائرة، أو الصاروخ، أو المناظير (التلسكوبات)، أو الأدوية، كل هذه كانت يوما ما في مخيلة أحد الأشخاص، ثم تحولت من الخيال إلى واقع عملي، فتحسنت الحياة.
عالمة السيكولوجي والمختصة بالفلسفة اليسون غوبنيك (Alison Gopnik) تربط بن الفلسفة وعلم النفس فما يختص بخيال الأطفال، وتقول إنه من أهم الطرائق لاكتشاف مبدأ "التزامن لا يعن التسبب" هو
الخيال الذي ينشأ أيام الطفولة، ففي بداية العمر يكون الطفل كالباحث العلمي، وحينما يكبر ليصبح رجلا يتحول إلى مصنع، دعونا نخوض في فكرة التزامن لا يعني التسبب،" ثم نتتقل لخيال الطفل لتفهم آلية البحث العلمي
لديه.
لقد ضربت أليسون مثالا رائعا على الفرق بين التزامن والتسبب، إن نظرنا إلى بعض الأشخاص المصابين بالسرطان، فقد نكتشف أن أصابعهم صفراء، هذه علاقة تزامنية، فمن يدخن كثيرا تكون أصابعه صفراء، وكلما كانت أصابعه
أكثر اصفرارا ستكون فرصة إصابته بالسرطان أكبر، وهذه العلاقة وإن كانت مرتبطة بالسرطان تزامنيا إلا أن صفار الأصابع ليس سبب السرطان، وكذلك فإن غسل اليد وإزالة الصفار ببعض المبيضات لن يشفي المريض.
السبب الرئيس للسرطان في هذه الحالة هو التدخين، والعلاقة السببية هي في الحقيقة بين تدخين السجائر والسرطان؛ لذلك فإن التوقف عن التدخينبالتأكيد سيقلل فرص الإصابة به، هذا ما نعنيه بالعلاقة التزامنية والسببية، يتزامن صفار الأصابع مع مرض السرطان، ولكنه ليس السبب في تكونه.
من المهم جدا فهم هذه العلاقة حتى تفهم كيف تعمل الطبيعة، وإذا فهمنا العلاقات فهما جيدا سنتمكن من أن نعالج الأمراض، ونصنع الأجهزة، ونبني الأبنية، وسنعرف كيف يتحرك الكون وبالتالي كيف نؤثر فيه.
وحين نتمكن من فهم هذه العلاقة لابد أن يتوفر لدينا الخيال، فالأطفال حينما يتخيلون سيناريوهات مختلفة في مخيلتهم أثناء لعبهم، فهم يقومون بتجارب ذهنية، ومن خلال هذه التجارب يحاولون التوصل إلى علاقات سببية بين الأشياء، والدوافع الحقيقة لحركتها.
من الممكن أن يبدأ الطفل بتكوين صورة ذهنية معينة، وقد تكون هذه الصورة خيالية لا علاقة لها في الواقع نهائيا، ولكن ستحكل في طياها مفاهيم منطقية، فمثلا بإمكان الطفل أن يتخيل أنه يشرب الماء من كوب فارغ، هو الآن يتخيل أنه يشرب الماء، وإذا أخبرناه أنه سكبه على نفسه ثم سألناه: "ما حالتك الآن؟» سيقول إنه مبلل، ولو خيل له أنه يمسك بالطحين ثم تساقط هذا الطحين التخيلي على ملابسه لقال لك إن ملابسه لا تزال جافة.
هذه الفكرة التخيلية وإن كانت غير واقعية (لعدم احتواء الكوب على الماء فعليا) إلا أن هذا الافتراض الذي يقوم به الطفل يكون صورا منطقية للأحداث التي تليها، وبذلك يربط الأمور ببعضها ليكون علاقات سببية، فالماء يسبب البلل والطحين لا يسبب البلل، ولو أنك قلت للطفل إنه مبلل بعد سكبه للطحين على ملابسه لرفض ذلك، لأن الفكرة غير منطقية وتخالف الواقع، حتى وإن بدأ بفرضية خيالية وهى شرب الماء الخيالي، مثل هذه التجارب
الذهنية الي يقوم بها الأطفال في حياهم اليومية - باحثين وبمجربين لأفكار مختلفة لفهم العالم من حولهم- تتشابه مع ما يقوم به العلماء في محاولة لفهم حركة الطبيعة من حولهم.