رواية (رجال في الشمس ) عربي حادي عشر الفصل الثالث
أبو قيس
أراح أبو قیس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه.. في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال - منذ أن استلقى هناك أول مرة يشق طريقا قاسيا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي ترکها منذ عشر سنوات، أجابه ساخرا:
«هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض»، أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهمة في عروقه؟ (...) الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيرا..
الأرض الندية -فکر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا، أمس لم تمطر.. لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلا قيظا وغبارا! أنسیت أين أنت؟ أنسیت ؟
دور جسده، واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه، وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عاليا وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ فجأة بشعور آس من الغربة، وحسب لوهلة أنه على وشك أن يبكي..کلا، لم تمطر
ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. یا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم!۔ یا رحمة الله عليك! لا شك أنك ذو حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إکرام موتك.. ولكنك على أية حال بقيت هناك.. بقيت هناك! وفرت على نفسك الذل والمسكنة، وأنقذت شيخوختك من العار.. یا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أکنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت کی تجد لقمة خبز
نهض، واستند إلى الأرض بکوعيه، وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك. إذن هذا هو شط العرب: «نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات..»
هكذا صاح ابنه قيس بسرعة حين سأله تلك الليلة: - «ما هو شط العرب؟»
صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج، والطائر الأسود ما زال يحوم على غير هدی.
قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر.. أحس، أكثر من أي وقت مضى بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة، ونفض عن رأسه كل الأفكار التي تجمعت كجيوش زاحفة من النمل.
وراء هذا الشط، وراءه فقط، توجد كل الأشياء التي حرمها. هناك توجد الكويت.. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك.. لابد أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لابد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالا ونساء وصغارا يركضون بين الأشجار.. لا.. لا.. لا توجد أشجار هناك.. سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك، واشتغل سواق، وعاد بأكياس من النقود قال: إنه لا توجد هناك أية شجرة.. الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس.. في رأسك العجوز التعب يا أبا قيس.. عشر أشجار ذوات جذوع معقدة كانت تساقط زیتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة أشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب أن تصدق سعدا لأنه يعرف أكثر منك رغم أنه أصغر منك.. كلهم يعرفون أكثر منك.. كلهم.
في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئا سوى أن تنتظر.. لقد
احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة کی تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ککلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تراك كنت تنتظر؟ أن تثقب الثروة سقف بيتك.. بيتك؟ إنه ليس بيتك.. رجل کریم قال لك: اسکن هنا! هذا كل شيء، وبعد عام قال لك أعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد.. وبقيت مقعا حتى جاءك سعد وأخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبدا.
- «إذا وصلت إلى الشط بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء.. لماذا لا تذهب؟»
سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بین وجهيهما، وأخذت تهدهد طفلها من جديد.
- «إنها مغامرة غير مأمونة العواقب؟»
- «غير مأمونة العواقب؟ ها! ها! أبو قيس يقول؛ غير مأمونة العواقب. ها ها»!
ثم نظر إليها وقال:
- «أسمعت ما يقول زوجك؟ غير مأمونة العواقب؛ كأن الحياة شربة لبن! لماذا لا يفعل مثلنا؟ هل هو أحسن؟..»
لم ترفع بصرها إليه، وكان هو يرجو ألا تفعل..
- «أتعجبك هذه الحياة هنا؟ لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش
- «ما عليك إلا أن تدور حول الإتشفور، ولا بأس أن تضرب قليلا إلى الداخل، أنت مازلت فتي وبوسعك أن تتحمل قليلا من القيظ.. ثم عد، وستجدني بانتظارك على الطريق..»
- «ولكن هذا لم يكن ضمن الشروط.. لقد قلت لي ونحن في عمان أنك ستأخذني إلى بغداد، ودفعت لك عشرين دينارا کاملا. لم تقل لي إنني سأدور حول الإتشفور..»
وضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر، فعلمت أصابعه الخمسة وبان من تحتها لون السيارة الأحمر الفاقع.. كانت السيارة الضخمة واقفة إلى جانب البيت قرب جبل عمان حين تفاوض معه، وهو يذكر تماما كل الشروط التي قيلت:
- «إنها مهمة صعبة، وسوف يأخذونني إلى السجن لو أمسكوك معي، ورغم ذلك فسوف أقدم لك خدمة كبرى لأنني كنت أعرف والدك - رحمه الله- بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات..»
صمت أبو العبد قليلا.. كان قميصه الأزرق ينضح بالعرق، وأعطاه وجهه الحاد شعورا بأنه أمام واحد من أولئك الرجال الذين يعتقدون أن اجتراح معجزة ما هو واجب من واجبات رب العائلة:
- «سآخذ منك عشرين دينارا.. وسوف تجد نفسك في بغداد.»
- «عشرون دینارا؟»
- «لكنني لا أعرف هذه المنطقة.. أتفهم أنت معنی أن أسير كل هذه المسافة حول الإتشفور، في عز الحر؟»
ضرب أبو العبد جناح سيارته المغبر مرة أخرى؛ كانا واقفين منفردين قبل ميل من الإتشفور، وصاح:
- «ماذا تعتقد؟ إن اسمك مسجل في كل نقاط الحدود، إذا رأوك معي الآن، لا جواز سفر، ولا سمة مرور.. ومتآمر على الدولة، ماذا تعتقد أنه سيحدث؟ كفاك دلالا.. إنك قوي كالثور بوسعك أن تحرك ساقيك.. سألاقيك وراء الإتشفور على الطريق»
كلهم يتحدثون عن الطرق.. يقولون: تجد نفسك على الطريق! وهم لا يعرفون من الطريق إلا لونها الأسود وأرصفتها! وها هو الرجل السمين، المهرب البصراوي يكرر القصة نفسها. : «ألا تسمع؟ إنني رجل مشغول جدا، قلت لك: خمسة عشر دینارا وسأوصلك إلى الكويت، طبعا عليك أن تمشي قليلا،
ولكنك فتى في غاية القوة، لن يضيرك هذا»
- «ولكن لماذا لا تصغي إلي؟ قلت لك إنني سأعطيك المبلغ إذا ما وصلنا إلى الكويت»
- «ستصل! ستصل!»
- «کیف»
- «إنني أقسم لك بشرفي أنك ستصل إلى الكويت!»