كتاب رواية قلم زينب اللغة العربية الصف الثاني عشر الفصل الثاني 2023-2024

البيانات

كتاب رواية قلم زينب اللغة العربية الصف الثاني عشر الفصل الثاني 2023-2024

كتاب رواية قلم زينب اللغة العربية الصف الثاني عشر الفصل الثاني 2023-2024

-1

أول مرة رأيت فيها (إدريس علي)، ذلك النحيل، الذي سیربكني أشهرا طويلة بعد ذلك، كان في حي النور الشعبي، في الجانب الشرقي من مدينة بورتسودان الساحلية، حيث نشأت ودرست أغلب مراحلي التعليمية الأولى، وكونت مسيرة حياة ما تزال ماضية حتى الآن.

کنت قد أكملت تدريبي الطبي الشاق، في فروع الأمراض كلها، داخل مستشفى المدينة الكبير، لأصبح طبيبا عاما، يتقافز بين الجراحة والباطنية، وطب الأطفال، والأمراض الجلدية والنساء والتوليد، لكني اخترت القسم الأخير، أو اختارني، لأعمل فيه حتى أنال تخصصا. وكان لا بد من عبادة مسائية في واحد من تلك الأحياء البعيدة عن نظر الاختصاصيين، لزيادة الدخل وملء إحساس الطبيب بأنه يملك مهنة جذابة وذات عائد، بعد سنوات الدراسة الطويلة التي أنهکت موارد الأسرة صنعت ختما خاصا بي في واحدة من ورش الخشب المنتشرة في المدينة، وعدة دفاتر من الورق الأملس عليها اسمي، واسم جامعتي التي تخرجت فيها، في مطبعة رخيصة، وظللت أدور بختمي وأوراقي، وعربة والدي الصغيرة من ماركة (كورولا)، بين عيادات زملائي القدامى، أغطي غيابهم المؤقت إن غابوا، أو أستلف منهم أياما متفرقة، يساعدني إيرادها القليل على مصروفاتي، لكن ذلك لم يكن يرضيني، وما زلت بلا اسم ولا بريق ولا عربة خاصة، أستخدمها وحدي، وحين أشاء

كان عز الدين موسى، أحد مساعدي تحضير العمليات القدامی، الذين عملوا معي أثناء التدريب، وتعلمت منهم كثيرا من الحيل، يسكن في حي النور البعيد، وكان قد أنشأ في بيته منذ فترة طويلة، عيادة بمواصفات الحي نفسه، لا غرفة مصبوغة بعناية، لا أثاثا جيدا مريحا، ولا كهرباء تبرز الاسم على لوحة مضيئة، ولا حتى طريقا نظيفا بلا حفر تشقه العربة حتى تصل . وكان قد تعاقب على عيادته تلك عدد كبير من الأطباء الذين عملوا في الساحل، يجلسون عليها سنوات أو أشهرا، أو أياما معدودة، ثم يذهبون. بعضهم إلى تخصص يختاره، وبعضهم إلى هجرة يهاجرها، وقد يترك بعضهم المهنة تماما، ويتفرغ لأعمال أخرى مثل التجارة والسمسرة، والعمل السياسي.

حدثني عز الدين بأمر تلك العيادة بعد أن خلت ذات يوم بحصول شاغلها الأخير - وكان اسمه (الماحي)- على عقد عمل في دولة عربية خليجية، وسافر على الفور، حدثني عن ازدحامها الشديد، وعن زبائنها الذين يترددون عليها بلا حصر منذ سنوات طويلة، و عن دخلها الذي لا يتوفر حتى لكبار المتخصصين، أصحاب اللافتات اللامعة المضيئة في وسط المدينة وانسقت خلفه حتى قبل أن أرى الموقع، وأقرر إن كان يصلح عيادة حقيقية أم لا؟ اشتريت مولدا صغيرا مستعملا للكهرباء من هندي اسمه برد شاندرا)، كان من بقايا هنود المدينة الذين قطنوها منذ زمن بعيد، واستعمروا تجارتها، خاصة في مجال القماش والحلويات، وتموين السفن، وكان يتاجر بالمولدات الكهربائية وآلات التكييف و التدفئة والمراوح في محل بلا اسم يملکه وسط المدينة، وكان جافا، وعدائيا ويقسم بالطلاق ثلاثا في كل وقت، وعند مناقشة 

أي مشتر، أسوة بالتجار جميعهم، حتى لو كانوا هنودا بوذيين، وباعني سلعته المستعملة، بمبلغ كبير لم أكن أملکه حقيقة، بل استدنته من أحد الزملاء القدامى، بالرغم من أنني ذهبت إليه برفقة أحد أقاربه. وجلسنا أنا وعز الدين موسى الذي يعمل أيضا ممرضا بالعيادة، إضافة إلى ملكيتها، بعد ذلك أياما قاربت الشهر، على كرسيين قديمين من البلاستيك المقشر، أمام باب العيادة بلا عمل، نتابع الزحام الذي يتخبط في الظلام أمامنا، ويحدثني عن زبائن بلا عدد سيأتون حتما في أحد الأيام، منساقين وراء لافتة ( النيون) التي تمت إضاءتها بمولد (برد شاندرا)، لأول مرة منذ أن افتتح العيادة، وكانت اللافتة من قبل، تضاء بالفوانیس، أو تترك بلا إضاءة، وأحدثه عن خيبة الأمل التي أحتها، ولا تفارقني في أي وقت من أوقات يومي، وكان ينهض متوترا كلما لمح ظلا في الطريق، يقترب منا، أو سمع صراا في بيت قریب، أو تعثر أحد المارة بحجر وسقط، ثم يعود إلى جلسته بتوتر أكثر حين يتجاوزنا الظل إلى بعيد، أو يسكن الصراخ، وينهض المتعثر من سقطته ويمضي، واضطر - في أحيان كثيرة وتحت وطأة ثقل الضمير أنه ورطني بلا معنى، وأيضا شح المال عندي وعنده - أن يجوس بقدميه في الحي، يطرق بيوتا عديدة يعرف أن فيها مرضی مزمنین، ويعرض عليهم خدمات طبيبه الجديد البارع بأجرة تافهة. وكانت ثمة استجابات طفيفة، أو لا استجابات على الإطلاق. وصادف أن جاء في تلك الأيام مندوبون عديدون من مصلحة الضرائب وإدارة الزكاة وشؤون الأيتام والقصر، وجمعيات الأعمال الخيرية، سعيا وراء صيد ثمين، لم يعثروا عليه عندي، وسجلوا على أوراقهم ودفاترهم، دخول وخروج عیال عز الدين وأقاربه الزائرين الذين

 

-2

السلام عليكم .. أنا (إدريس علي).

رفعت رأسي، أتأمل الرجل الذي يقف أمامی شابا كلتا يديه على صدره، ومبتسما عن أسنان بيضاء كاملة على فكيه. كان شابا في أوائل الثلاثينات من العمر، نحيلا بشكل لافت حتى ليبدو بلا لحم، شعره منكوش إلى أعلى، لكنه منسق وعليه زيت الماع، يرتدي زي جنود الصاعقة المرقع، الذي كان موضة سائدة في تلك الأيام، أحدثها الهياج الدائر في حرب الجنوب، وما تبعه من عسكرة للأجواء والأمزجة والشوارع وشاشة التليفزيون، وطوابير الصباح في المدارس. حول معصمه الأيسر ساعة من ماركة (جوفيال) العتيقة يبدو میناؤها باها، ويضع على جسده عطر (ماکسي) التفاذ الذي كان منتشرا أيضا، ويستخدمه الرجال الأنيقون وغير الأنيقين.

رددت على تحيته: وعلیکم السلام.

دعوته للجلوس حتى أستمع إلى شكواه، ثم أرقده على طاولة الفحص كما أفعل بشكل آلي عند رؤيتي لكل مريض، فجلس واضعا ساقا على ساق، وكان حذاؤه من ماركة (باتا)، قديما جدا، ومتناسل الخيوط، لكنه يلمع ب (ورنيش طلي به حديثا، وربما قبل دقائق من قدومه إلى عيادتي.

سألته عن علته كما هو مفترض في شخص يطرق عيادة طبيب، لكنه رد وهو يتحسس جسده بيديه ويستعيذ بالله من كل شر، بأنه ليس مريضا بأي شيء، ولا يذكر حتى أنه أصيب بصداع أو (إنفلونزا) عادية من قبل، وإنما هو زائر، جاء لتحية الطبيب الجديد في الحي، وإكرامه والتعرف إليه أكثر، خاصة أنه قرأ على لافتتى المضيئة ب (النيون)، والمكتوبة بخط أحمر أنيق، عند خطاط متمرس، أنني تخرجت في مصر، وهو أيضا تخرج هناك، حيث درس في معهد (اللاسلكي الشهير بالقاهرة، في شارع مجلس الشعب، ذلك المعهد الذي أجزم أن ثلث الشعب السوداني في ذلك الوقت، قد تخرج فيه. بدأ بسؤالي عن فترة دراستي في مصر، وأين كنت أسكن، وكيف كنت أقضى أمسياتي، وعطلات نهاية الأسبوع، وإن كنت قد زرت الفيوم، والقناطر الخيرية، ومقاهي حي الحسين، وركبت عربة الحنطور في منطقة الأهرامات، ثم عرج على أشخاص ربما أنني عرفتهم أو صادفتهم في أثناء وجودي هناك: شوقی دلدوم عازف الكمان الأعمى الذي يلقب ب(المايسترو).. أبو الرمل صاحب أجمل صوت غنائي بين الطلاب، بالرغم من تهتهته في الحديث العادي، و(سبيل) الذي أنشأ عصابة لكسر المنازل في الأحياء الراقية، ودوخ الشرطة المصرية.. وعصام الملقب بالبيضة؛ لأنه لا يأكل إلا البيض المسلوق، وشکراوي الذي يبيع الأقلام الجافة وأمشاط الشعر، وفرش الأسنان في ميدان التحرير، وكانت بالطبع أسماء غريبة ومريبة لم أسمع بها قط من قبل. قال إنه رجل أعمال بسيط يتاجر في بضائع شتی يجلبها من العاصمة وبلاد الخليج العربي و(تایوان)، ولا يقيم في حي النور، لكنه يأتي بشكل شبه يومي، يزور أقاربه العديدين الذين يقطنون في الحي ويروج لتجارته

شارك الملف

آخر الملفات المضافة

أكثر الملفات تحميلا