رواية رحلات عجيبة في البلاد الغريبة اللغة العربية الصف الثامن الفصل الثالث
الجزء الأول
الوهم
وكان أن جاء أمي المخاض وهي فوق الحمار الذي كان يحملها من المدينة إلى قريتنا، فأوقف أبي القافلة وجعل لها خيمة صغيرة عند قدم الجبل.
كانت ولادتها صعبة، ولولا دراية خادمتها وتوجيهات أمي لها بالرغم من حالتها لماتت وهي تلدنا، أنجبت أمي في تلك الخيمة تحت قدم الجبل توأما، وبقيت في الخيمة سبعة أيام بلياليها حتى تمكنت من أن تواصل الجزء الأصعب من رحلتها، ألا وهو صعود الجبل. كان ذلك الصيف حارا جدا، والقيام بمثل هذه الرحلة في هذا الوقت من السنة بمنزلة الانتحار، لكنه أيضا الوقت الوحيد من السنة الذي يجف فيه الوادي العريض المحيط بالجبل والذي يمكن للناس فيه العبور ثم الصعود فوق الجبل إلى قريتنا. وكان أبي قد ترك هذه القرية التي لا اسم لها قبل أربع سنوات تقريبا، ظنا منه أنه لن يعود إليها أبدا، لكن القدر أراد له شيئا آخر.
كان «البلد» قرية صغيرة جدا على جبل عال يصعب الوصول إليها، ويعيش أهلها على الزراعة ورعي الأغنام. ينزل رجال القرية إلى المدينة مرة واحدة في السنة، ويسيرون على أقدامهم أو على الحمير لمدة يومين ليصلوا إلى المدينة ويبيعوا منتجاتهم من الجبن والفواكه والزيتون والجلود، ويشتروا ما يحتاجون إليه من ملابس وأدوات وبعض الكتب أحيانا، وفي المدينة يعرف أهل القرية أخبار السنة التي مضت واسم حاكم البلاد وقصا أخرى.
كان «البلد»، كما كان يسميها أهلها، معزولة لدرجة أن لا أحد يعرف بوجودها سوی بعض تجار المدينة الذين يتعامل معهم أهلها. لم يكن أحد يزور القرية
ولما كان الرجال البالغون فقط هم الذين يذهبون إلى المدينة، فلم تكن هناك امرأة تعرف شكل المدينة أو حتى طريقها. ينزل الرجال في الصيف عندما يجف الوادي المحيط بالجبل، أما بقية أيام السنة فتكون القرية معزولة طبيعيا عن العالم بهذا الوادي العظيم المليء بالماء المحيط بها.
كان أهل القرية كلهم أقرباء لأنهم في الأصل جاؤوا من عائلة واحدة، وتقول الرواية إن الشيخ سعد، شیخ القرية الأول، هرب قبل مئات السنين من جنوب فلسطين خوا من ثأر بعد أن قتل رجلا من عائلة أخرى، وأنه ظل هائما على وجهه مع عائلته لفترة طويلة، حتى رأى في المنام شجرة ضخمة بأوراق دائمة الخضرة تظلل مساحة كبيرة من جبل، فاتجه جنا إلى الشمال حيث وجد الشجرة، وهناك بني بيته وأقيمت القرية على هذا الجبل. كانت لقريتنا معتقداتها وقوانينها الخاصة التي ترسخت عبر السنين، يسنها ويشرعها مجلس الشيوخ، فكان أهل القرية يعتقدون مثلا أنه إذا ما ترك أحد القرية ليسکن مكانا آخر بعيدا عنها فإن ذلك سوف يجلب المشكلات للقرية، وأنها ستتعرض للمصائب والخراب. كانوا يعتقدون أيضا أنه إذا جاء غريب إلى القرية فإن ذلك يجعل المصائب تحل بها، لذلك منع زواج الرجال من خارج القرية، أما النساء فكان محظوا عليهن ترك القرية، فكيف بالزواج من خارجها؟ وكان الأولاد الذكور فقط من يسمح لهم بالتعلم في كتاب القرية، أما البنات فقد گئی ممنوعات من التعليم ومحرم عليهن الاقتراب من الكتاب.
ظلت القرية تعيش بهذه الطريقة سنوات طويلة، وكانت القوانين تترسخ عبر السنين وتزداد تعقيدا، لدرجة أن أحدا لم يجرؤ حتى على التفكير في البقاء في المدينة لأكثر من الأسبوعين المصرح بهما، وبالطبع لم يكن أحد ليجرؤ على الزواج من خارج القرية، ولم تفكر النساء بالتعلم أو الفتيات باللعب، كما لم يكن أحد ليجرؤ على أن يرفع عينيه أمام شيوخ القرية
وبالرغم من كل هذه القوانين الصارمة والحذر الشديد فقد حلت المشكلات على القرية، إذ هرب سليمان الراضي منها ذات يوم إلى المدينة ولم يعد.
كانت المشكلات كبيرة وكارثية، فمنذ خمسين عاما تقريبا لم تلد نساء القرية سوى الذكور، حتى الأغنام تلد ذکورا، فبدأ الخوف يسيطر على الرجال، إذ إن أصغر امرأة في القرية عمرها خمسون عاما، وبدأ عدد النساء يتناقص، وصار الرجل يخرج مطأطئا رأسه حين يعرف أن زوجته قد ولدت ذكرا، ومنع الشيوخ الاحتفالات التقليدية بمولد الذكور، وصارت النساء من حبهن الإنجاب البنات يلبسن أولادهن ملابسه ويطلن شعورهم.
ومع كل المحاولات لم يفلح طبيب الأعشاب في إيجاد الحل، ولم تجد تعويذاتهم، وبالرغم من الأضحيات والعجول المذبوحة بقي الوهم جاثيا فوق القرية، ومع ذلك، وعلى الرغم من الكارثة ظل مجلس الشيوخ يرفض السماح للرجال بالزواج من خارج القرية ظنا منهم أنهم إذا أمسكوا بسليمان الهارب فإن المشكلة ستحل لكن الأمر الذي لم يعرفه أحد أن سليمان الراضي مات بعد عدة أشهر من وصوله إلى المدينة بمرض غامض، وبقي أهله يبحثون عنه.
كان أبي «سعید»، أصغر طفل في القرية، وكان من عادة الرجال في كل سنة أن يصطحبوا معهم إلى المدينة كل الأولاد الذين بلغوا الثالثة عشرة. وهكذا نزل أبي «سعید» مع عمه وأبيه وبقية رجال القرية إلى المدينة، ومنذ اللحظة التي شاهد فيها المدينة لم يكف عن التفكير بها، كان أول ما أذهله ضخامتها، ثم بهرته ألوانها، فقد كان يغلب على قريته اللونان البني والأسود ومشتقاتهما، إن كانت هناك إمكانية لاشتقاق أي شيء منهما، وقد كان الشيوخ الأوائل قد منعوا استعمال الألوان الزاهية لأنها تدل على بهرجة زائفة، وفرضوا هذين اللونين لأنهما دلالة على التواضع والتقوى. أما المدينة، فقد كانت ألوانها تتراقص أمامه بكل انعكاساتها في الشمس، الأحمر والأخضر والزهري والأصفر والأزرق والذهبي، ثم كان هناك السوق، فهو لم ير في حياته كل هذا العدد من الناس والحوانيت والملابس والبضائع والروائح والكتب.
رأى سعيد في المدينة حوانیت متخصصة فقط في بيع الكتب، وأذهله وجود هذا العدد الكبير من الكتب في مكان واحد، حتى مكتبة الكتاب في القرية بدت وكأنها رف واحد فقط من هذه الرفوف المتراصة، كتب على الرفوف وعلى الأرض وفي الصناديق وفوق بعضها البعض، جبال من الكتب؟
عندما وصلوا إلى الخان رجا سعيد أباه أن يسمح له بأن يشتري بعض الكتب، لكن الوالد أوضح له أنه لا يسمح لأحد أن يشتريها سوى من أوكل إليه مجلس الشيوخ هذه المهمة، وهم فقط الذين يحددون ما هي الكتب المسموح شراؤها، وأنه يمنع دخول أي كتاب غير مصرح به من قبل مجلس الشيوخ وأن حامله سيتعرض للعقاب الشديد، فوقف سعيد أمام حانوت الكتب مذهولا فاغرا فاه من الدهشة، فهو يتمنى لو يستطيع الجلوس هنا مائة عام حتى يتمكن من قراءة هذه الروائع. تسلل إلى داخل الحانوت وأخذ يجول ببصره في المكان، فوجد کتابا غلافه من الجلد الأحمر عليه رسوم وصورة طائر ملون، وكتب عليه بخط جميل «الرحلات العجيبة في البلاد الغريبة»، فتحه وأخذ يتصفح أوراقه، وعلى كل صفحة كان يجد صورا ملونة وخرائط وأسماء لمدن وبلاد لم يسمع بها، وصور حيوانات وطيور أعجب من الخيال.
بقي أبي واقفا مدة طويلة يتأمل صور الكتاب وجمال خطه، ولم يلحظ أن صاحب الحانوت كان يراقبه، ولكنه تنبه فجأة إلى صوت الرجل يسأله إن كان يود شراء الكتاب، فاعتذر وأعاد الكتاب إلى مكانه دون أن تفارقه عيناه، وحين حاول صاحب الحانوت إغراءه بشرائه تذرع سعيد بحجة منع إدخال مثله إلى قريته، ففهم صاحب الحانوت أن سعيدا قد جاء من «تلك القرية»، فدعاه لأن يزوره كل يوم في أثناء إقامته في المدينة ليقرأ أكبر كمية من الكتب قبل أن يغادر.